السبت، 21 يناير 2012

أنشودة المطر ...!




ما هو سر الحياة الأدبية التي تلقيها السماء علينا مع الأمطار ، أي سحر يختزله ذلك الغمام المسافر بألوان بيادق الشطرنج وهو يحمل إليها مصائرها التي لا زالت تملى عليها منذ عقد مضى؟
لا يختلف اثنان من متذوقي الأدب العربي على أن أجمل ما كتبته أقلام المبدعين كان تحت المطر فتحت أمطار بيروت ومن ثم لندن كتب نزار أجمل ما كتب في الوطن والعشق وتحت أمطار لندن عبث غازي القصيبي و غادة السمان وأحلام مستغنماني كثيراً تارة تحت مظلات من ورق وتارة دون ما يسترهم من ريح بلادهم الصفراء! وتحت المطر أيضاً كتب شاعر الغربة الذي يزرح تحت رحمة السرطان والدم المشبع بامراض الوطن احمد مطر أبلغ لافتاته ... لا أدري هل كان المطر هو الموحي بكل الكآبة والحزن المسيطر على تلكم الكتابات ؟ لماذا يوجد في أعماق وجدان كل من يمسك بالقلم أو الريشة او لوحة المفاتيح او حتى السيف ليكتب شعراً او نثراً حزن لا مبرر له إذا ما ارتبط بقطيرات منهمرة هنا أو هناك ....

قطرة مطر ... هي غربة ، فصحراؤنا ترينا إياها مرة أو مرتان في العام من باب العلم بالشئ أو كأنها تخرج لسانها لنا قائلة هذا ما لدي خذوني كما أنا أو اتركوني ، أنا ملك للعطاشى كلما أحبونني زدتهم عطشا ... أوليس على المحب أن يضحي ؟

قطرة مطر ... هي الأمل بالتغيير ، ألم يذكرنا القرآن في غير موضع بأن الماء المنزل من السماء هو السبب الأول لما سيتبعه من مفرحات من اهتزاز الأرض وانفجار الزرع والثمرات هنا وهناك .

قطرة مطر ... هي حرية مبتورة فمنذ انعتاقها من خفة الوزن والعقل في مملكتها الأصلية فإنها تسير كما تشتهي بين السماء والأرض لا تجبرها ريح ولايثقلها رفيق وحيدة وحرة .... إلا أنها تعلم أنها سترتطم بالأرض وتدوسها الأقدام إن لم تكن ضمن آلاف من القطرات تؤمن بقضية واحدة وتسير معا فتكون سيلاً يقدر وحده على تدمير حتى كبرى المدن الأمريكية دون دعم من منظمات إرهابية أو مرتزقة بملامح شرق أوسطية !

قطرة مطر ... جزء من كل ، والماء ناقل جيد للحرارة والكرباء والأفكار بين أهل السماء وأهل الأرض لذا فهي لا تؤثر بالضرورة إلا على المبدعين أو المقهورون او الغرباء ...

قطرة مطر ... هي ليست من أجلي أو أجلك ... بل هي للبهائم !

لقد كان لهذا الكم من الحزن في أدبياتنا الحديثة ما يبرره فالأديب يقول لنا بأسلوب غير مباشر إنني لا أقدر أن أكتب هذا في بلدي لذا فأنا هنا غريب تحت المطر أكتب لكم ...
أما عن أدباؤنا المقيمين أصحاب الياخات الزرقاء والمؤشرات الخضراء في سوق الأسهم فحالهم كذكرى شاعر الكويت :
نضبت جرار الماء والغدران مثل يد البخيل / محلت فأمست كالقبور / مخسوفة سوداء تملؤها الصخور / والريح أغرقت السفينة والسماء / حقدت علينا يا امينه / صرخات طفلك في الظلام ... أتسمعينه ؟ / نهداك ملؤهما الحليب وأنت ظمآى ترضعينه / في بيتك الطيني قابعة حزينة / تتسائلين عن السفينة ...

* * *

كنت بحاجة إلى بضع قطرات فقط تكفي لملأ فنجان قهوة لكي أتمكن من صنع ابتسامة أستقبل بها المراجعين ثم قررت التنازل لا أريد المطر يكفيني أجوائه السماء الملبدة والنذير بالأجواء المكفهرة سيكون لها عمل فناجين القهوة وأجواء الحسين لدى كتاب السبعينات ، رأيتها جالسة بعبائتها السوداء المشمرة وبرقعها الذي يشي بجيلها وأصلها .... سالتها عما تريد وطلبت منها الإنتظار ولما كانت قد شارفت على التسعين أخذت أتجاذب معها الحديث حول المطر وانقطاعه وعن المنطقة الشرقية والخور ودبا ومسافي واعسمه وكيف كانت الوديان تفيض ... ومن الللامكان جائت الأخرى أنثى بتفاصيل عديدة ولكن قل .... أنثى وكفى ! دارت الرؤوس جميعها تتبعها من حيث دخلت إلى حيث خرجت إلا عيني محدثتي التي ابتسمت بحزن وختمت حديثها : (أرأيت يا بني ! فمن أين يأتي المطر ...) !

فقدتك ...!

5 دقائق